السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشكركم على العمل العظيم الذي تقومون به للميدان التربوي، وأريد منكم تزويدي بمعلومات حول طريقة تدريس السيرة بصورة تجعل الدارسين يشاركون فيه بفعالية في العملية التعليمية، فلدينا مشكلات عند تدريس هذه المادة.
الجواب:
تمثل سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم النموذج التاريخي الأمثل الذي لم يتطرق إليه عبث أو تزوير ولم تطله يد المائلين إلى هذا الاتجاه الفكري أو ذاك.. ومن ثم فهي معين لا ينضب ومنبع خير لا ينقطع... ولا زال العلماء وطلاب العلوم يتوقفون عند دلائل سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة فيستخرجون الذهب واللآلئ.. وقد يحتاج الدارسون والمربون إلى معالم تبصرهم في أثناء تناولهم للسيرة علما وتعليما كي يزداد إنجازهم في دراستها ويعمق فهمهم بدرايتها، فتكون المشاركة الفعالة من جانب العالم والمتعلم ويكون الأثر المراد من ذاك النبع الأصيل.. وها نحن نقف معك أخي القارئ عند عدة بصائر ومعالم في تدريسها وتعليمها كالتالي:
أولا: وقار صاحب السيرة يلقى بظلاله على طريقة تعليمها.. إن قيمة درس السيرة النبوية الذي يعرضه المعلم والمربي على سامعيه لتزداد قيمته وتسمو فائدته لدى متعلميه كلما تذكر المستمع والمتعلم مقام صاحب تلك السيرة وكلما عاش في ظل وقار حياة ذاك النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ولست أعنى بالوقار مجرد الاحترام والسكون اللازمين عند من يوقره الناس ويجلونه، بل يتعدى التوقير هنا ذلك إلى أمور أخرى عملية نحاول ذكر بعضها، (وعلى المعلم هنا أن يؤكد على هذا المعنى دائمًا ويمعن في تعديد جوانب الوقار وتبيينها للمتعلمين ولدارسي السيرة في كل مجتمع جوانب الوقار الواجب التأكيد عليها):
1- قيمة هذه السيرة العطرة إذ جاءت بعثته صلى الله عليه وسلم في زمن قد مقت الله فيه العرب والعجم كلهم إلا بقايا نادرة من أهل الكتاب.
2- مدى ذلك التأثير الإيجابي الكبير الذي أحدثته هذه السيرة- تطبيقيا- في العالم أجمع، ومدى التغيير الإيجابي الذي غيرته في الأمم التي شرفتها بدعوتها.
3- مقام ذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بين البشر عامة وبين الرسل خاصة وأن رسالته هي خاتم الرسالات وأنها المهيمنة عليها جميعًا.
4- الواجب تجاه هذا الرسول من تأدب في السلوك والواجب تجاهه من طاعة في العمل وتصديق في الرسالة وبذل وعطاء في نصرتها.
5- مقدار الجهد الكبير والعطاء العظيم والسعي الدءوب الذي بذله ذلك الرسول الكريم لأمته بغية تعليمهم وهدايتهم لطريق الهدى والخير والنور والإيمان.
ثانيًا: طرق تدريس السيرة بين التجديد والموروث.. قد يستطيع المعلم أن يوصل المعلومة التي يريدها إلى المستمع بطريقة سهلة لا يتعب نفسه فيها ولا يبذل فيها جهدا يذكر، فيفتح كتاب السيرة ويقرأ منه لطلابه وطلابه يستمعون فإذا ما انتهى الوقت أو انتهى الجزء سألهم: هل من سؤال؟ فيهزون رءوسهم بالنفي فيختم الدرس ويقوم عنهم ظانًّا أنهم قد استوعبوا الدرس وحصل المقصود.. ولنا على هذه الطريقة بعض الملاحظات من حيث مدى أثرها في التحصيل والتعليم إذا اكتفى بها المعلم في الموضوع الذي هو بصدده وخصوصًا موضوعات السيرة التي تحتاج سعة لفهم المواقف واستيعاب السلوك النبوي فيها وملاحظتنا كالتالي:
1- لا يمكن الاكتفاء بتلك الطريقة للتأكد من حصول الاستيعاب.
2- لابد من استخدام الطرق التعليمية المختلفة لكمال الاستيعاب.
3- التطبيق العملي في المواقف هو الدليل الأول على الفهم.
4- الاكتفاء بتلك الطريقة يراكم المعلومات في الذاكرة القريبة ويسبب نسيان الموقف والأسماء المذكورة فيه وتهمل معه المعلومة السابقة.
5- هذه الطريقة وحدها في التعليم لا تتيح القيام بالتفاعل التعليمي بين الطالب والمعلم.
6- هذه الطريقة وحدها تورث الملل لدى الطالب والمتعلم وتجعله لا يذوب في المادة فهما ولا يشتاق إليها شوقا.. بل يعدها مادة للتدريس النظري فحسب. ولذلك فيجدر بالمعلمين الانتفاع بباقي الطرق التربوية والتعليمية لتوصيل الرسالة العلمية والإيمانية للمنتفعين بها والراغبين فيها، وسأحاول أن أطلعك على طرف من هذه الطرق التعليمية المختلفة التي يمكن أن ينتفع بها في تدريس مادة السيرة النبوية..
أ- طريقة السلف: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن). إذن كانت هذه هي طريقة السلف الصالحين في تعلم المادة العلمية المعينة وهى الحرص على تفهم المادة وتطبيقها في المواقف قبل أن يستزيد، وهنا عندما نطبق ذلك على دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نقول إن كل جزئية من جزئيات حياته صلى الله عليه وسلم هي قيمة وكل موقف من مواقفه هو درس في ذاته وكل صفة من صفاته هي قدوة فيجب ألا نفرح بالاستكثار من تدريس السيرة من قبل أن نتأكد من تشرب الطلاب كل موقف وتطبيقهم لكل فضيلة واقتدائهم بكل صفة.
ب- التعليم بالموقف: وهذه الطريقة لا يمكن استخدامها إلا إذا كان المعلم متابعًا للطالب ومحتكًا به وقريبًا منه فهو يستغل كل موقف يمر به ليسدى إليه التوجيه والتعليم رابطًا كل موقف من المواقف بمواقفه صلى الله عليه وسلم وهذه الطريقة في التعليم من أبلغ الطرق في التأثير ومن أكثر الطرق رسوخًا في ذاكرة المتعلم إذ إنها تربط بمثير خارجي هو الموقف الذي مر به وبتوجيه مرتبط وهو التوجيه النبوي وطريقته صلى الله عليه وسلم في التصرف فيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يستخدم هذه الطريقة الناجحة في التعليم والتوجيه، فعن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين ليأتي بجزيتها فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم فلما صلى النبي انصرف فتعرضوا له فتبسم النبي حين رآهم ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا: أجل يا رسول الله. فقال: «أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
ج- ما تكرر تقرر: هي حكمة وصفية صالحة إذا حسن استخدامها وطريقة تعليمية ناجحة إذا أتقن العمل بها ومعناها أن يكرر المعلم الجمل الهامة والتوجيهات الضرورية والنصائح الغالية في السيرة النبوية التي وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في المواقف الهامة وعلى لسان أصحابه رضوان الله عليهم مرات كثيرة وفى مرات مختلفة وبطرق مختلفة، فإنه إذا أكثر من تكرار ذلك بهذه الطريقة فإنها تقرر في عقول المستمع كأصول وأسس ثابتة يصعب نسيانها، فالمعلم الحريص على تعليم أتٌباع النبي صلى الله عليه وسلم مثلا يكرر ذكر مقولة المقداد رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو خضت بنا البحر لخضناه معك لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
د- التعليم بالحكاية: وأقصد بالحكاية هنا حكايات الصالحين من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة والعلماء الكرام وكيف أنهم اقتدوا بسيرته صلى الله عليه وسلم اقتداء شديدًا واتبعوا خطواته متابعة كاملة، فتراجم الصالحين وحكاياتهم هي نموذج تطبيقي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
هـ- التعليم بالبحث: وهى طريقة جيدة أيضًا في تثبيت المعلومة والتحبيب في العلم والكتاب والتعويد على الصبر على العلم وعلى أدب الخلاف وهى هنا مفيدة جدًّا في تعليم السيرة النبوية وإخراج المستفاد من الدروس من المواقف والمقارنات بين المواقف السابقة والواقع الحالي وغير ذلك، وهي طريقة يقوم فيها المعلم- بعدما يشرح موضوعه المراد تدريسه- بأن يطلب من الأفراد القيام ببحث علمي مصغر للجزئية من السيرة المطلوبة كأن يطلب منهم البحث في صحة الروايات في تلك الجزئية أو الدروس المستفادة وكيفية تطبيقها في العصر الحديث أو خلافات الرواة في المواقف المختلفة وغيرها، ثم تأتى الخطوة التالية وهي أن يعرض عليهم جميعًا نتائج بحوثهم بعدد تقديمها له وقراءته إياها وعليه أن يثنى على مجهوداتهم ويبين الايجابيات في بحوثهم وأن يقف معهم على كل سلبية ويبين لهم الصواب بوضوح.
ثالثًا: الربط بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم وسيرته.. يغفل كثير من المعلمين أثناء تعليمهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للطلاب عن ربطها بالأحاديث النبوية الشريفة ويكتفون بما ذكره أصحاب السير في باب السيرة فحسب وهو منظور ناقص فسيرته صلى الله عليه وسلم هي كل موروث صحيح عنه في المواقف المختلفة سواء كان تصرفًا أو توجيهًا.. وهذا ما فعله بعض أهل العلم الكبار حينما يذكرون سيرته صلى الله عليه وسلم وأكثر نموذج يحضرني هو كتاب (زاد المعاد في هدى خير العباد) للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله فقد ربط فيه أيما ربط بين سيرته الشريفة وبين دروس فقهه وحديثه صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يستقص في ذلك الباب ربما لظروف تأليفه ذلك الكتاب القيم صحة الأحاديث... وهنا ننبه إلى أهمية استقصاء الحديث الصحيح الثابت في السيرة واجتناب الضعيف والمردود منها خصوصا وكتب السيرة قد تكثر بها الأحاديث الواهية، كذلك التدقيق في المواقف التي ذكرها الحديث النبوي الشريف ولم يعن بها كثير من أصحاب السير، كذلك التدقيق في الفوائد الفقهية والعملية الشرعية في المواقف المختلفة وسرد أقوال العلماء فيها وما استفادوه منها.
وأخيرًا فالسيرة النبوية نبع متدفق ومهم للغاية في البناء النفسي والانفعالي لأبنائنا إذا أحسنا استخدامها بطريقة منهجية موظفة.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الكاتب: خالد رُوشه.
المصدر: موقع المسلم.